تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- " اكرم كمال سريوي "
ثلاثةٌ وأربعون عاماً إنقضت، وكل مرة كانت زهرة حزينة يضعها وليد جنبلاط، محاطٍاً بالرفاق والأصدقاء، على ضريح المعلم الثائر الشهيد كمال جنبلاط. لكنه اليوم حرصاً على السلامة العامة ، يُقفل الباب والدار .
على ضريح، مَنْ أحدث ثورة في عالم الأنسان، ولم يبالِ بالموت. مَنْ ثار على الذات اولاً، فارتقى فوق غرائزها، وسما أخلاقاً وأدباً وتواضعاً وورعاً وتقوى. مَنْ ثار على الجهل، فارتوى معرفةً وعلماً. مَنْ ثار على التعصّب والطائفية والتفرقة، فأضحى قِيماً إنسانية كلّية. مَنْ ثار على الظلم والفساد، فتجسّد عدلاً وحكمة. مَنْ ثار على الذل والخنوع والإنكسار، فصار نصراً للأقوياء في نفوسهم، ورمزاً للإنتصار، وصار أباً وملجأً للمساكينِ، وثائراً مُلهِماً ومعلماً للثوار الأحرار .
لا يعلم قيمة كمال جنبلاط، سوى من عاشره، وقرأ كتبه وفلسفته، ومَنْ سمع عبد الناصر يلقّبه بالمعلم، وجاك بيرك يقول:«أخشى ألَّا يكون أحبني كمال جنبلاط كما أحببته»، ومَنْ آمن أن السياسة مسلك شريف، وليست كذباً ورياءً وخداعاً، وأنّ الحاكم خادم لشعبه وقائد له، وليس سيداً مستبداً عليه .
"أنا لست جسدي" بهذه الحقيقة آمن كمال جنبلاط، فسافر عام ١٩٥٢ براً الى الهند، عبر سوريا والعراق وإيران، ووصل الى كيرلا، ليلتقي بالمعلم كريشنا مينون، الذي عُرف فيما بعد ب «شري اتمانندا». وتجاوزت المعرفة عنده، ما هو حسي وما هو ذهني أيضاً، فهي لا يُمكن نيلها بالكلمات المكتوبة او المقروءة، بل بالتواصل الروحي المباشر .
تبلورت لدى كمال جنبلاط نظرة كونية، وصار شبيهاً لمعلمه الحكيم الرشيد، فهو المُطمئن دائماً وكأنّه يُقيم في صميم الحقيقة، وهو الفيلسوف والصوفي الزاهد، والأشتراكي التقدمي الراقي، فاجتمعت فيه كل صفات الأنسانية التي أراد تحقيقها في الإنسان .
مع رفاق مخلصين: فريد جبران، وألبرت أديب، وعبدالله العلايلي، وفؤاد رزق، وجورج حنا، أسس حزبه عام ١٩٤٩. وقاد الجبهة الأشتراكية التي أسقطت بشارة الخوري عام ١٩٥٢. وحمل راية العروبة وفلسطين، وسعى الى إرساء دولة علمانية عصرية في لبنان، يسودها العدل والمساواة، وتحكمها النخبة المخلصة، ويتحلى شعبها بالمواطنية الحقةالصادقة، بعيداً عن التعصب المذهبي والطائفي .
بدءاً من إقرار قانون «من أين لك هذا ؟» الى البرنامج الأصلاحي للحركة الوطنية، الى نقد الذات ومراجعة الأخطاء، والألتزام الكامل بالمبادئ والقيم، والتمسّك بسيادة لبنان واستقلاله، والدفاع عن حقوق العمال والفقراء، مسيرة نضال طويل، خاضها وقادها كمال جنبلاط، حتى الأستشهاد برصاص الغدر المستعرب .
قال البير منصور: في أحد الأيام، وبكلّ خبث سأل رفعت الأسد وليد جنبلاط، هل تعلم من قتل والدك؟ فأجابه: نعم «أنت». لم يكن سهلاً على وليد جنبلاط ذاك اللقاء، ولم تكن سهلة هذه السنين الطويلة. لكنه اليوم يبدو مرتاح الضمير، فهو حفظ العهد، وسلم كوفية النضال الى تيمور، ويضع وردة حزينة على ضريح والده، نعم حزينة على مصير لبنان، هذا الوطن الذي أراده كمال جنبلاط منارةً للشرق، ومثالاً للعيش الكريم، ومواطنٌ حر وشعب سعيد.
في الذكرى الثالثة والأربعين لأستشهاد كمال جنبلاط، الف تحية الى روحه الثائرة، ووردة وفاء على ضريح، ضمّ جسداً مثقلاً بالجراح، وهموم وطن حزين، لكنه ما زال يُنبت مع بداية كل ربيع، حياةً جديدة، وفكراً منيراً ، وأملاً، وعزماً لا يلين .