تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- محمد صالح أبو الحمايل
في تاريخ بيروت الحديث أي فيما بعد الإستقلال كان هناك "الحاج أبو ديب" بائع مناقيش يقف على باب بلدية بيروت، يحفظ مناقيشه في صندوقة زجاجية لتبقى طازجة ولذيذة، يدعمها بأوراق من النعنع تزيد من روعة طعمها، وكان يبدأ حضوره منذ السابعة وحتى التاسعة فلا يبقى في الصندوق شيئا، كانت المنقوشة فقط بعشرة قروش، وكان العمال والموظفون يتهافتون عليها من سوق المعرض وأسواق الخضار ومن باب إدريس حتى ذاع إسم "الحاج أبو ديب"، وعرفت الجمهورية الوليدة بإسم "جمهورية المناقيش".
وغير بعيد عن المكان في ساحة بناية "اللعازارية" كان "أبو علي" ينصب فرش الكعك المستدير بشكل الحقيبة والمغطى بالسمسم والمدعم بداخله برشة السماق أو الزعتر،و كان العمال أيضا والموظفون يتهافتون عليها من بناية اللعازارية والمعرض وساحة البرج وسوق الخضار الفوقاني وكان ثمنها أيضا عشرة قروش، حتى نسب الزبائن أنفسهم إليها فأسموها "جمهورية الكعك"، وبعد وقت ليس بالبعيد افتتحت عدة مطاعم للفول المدمس كان أولها "مطعم السوسي" ثم "مطعم الحريري" ثم جاء "مروش"، والكل توزعوا في المنطقة المحيطة بمبنى البلدية، فقد توسعت الأسواق وكثر العمال والموظفون واحتل صحن الفول وجبة الصباح التي تعين العمل والموظفين جميعا على قضاء شقائهم اليومي، فاستحق أن يتربع على عرش الجمهورية التي أصبح إسمها "جمهورية الفول".
تبع ذلك مطاعم الفلافل التي شرعت "تنادي" الناس برائحتها الزكية التي عرفت بالسبع بهارات من أماكن بعيدة في ساحة البرج وصولا إلى ساحة الدباس واللعازارية، كان سندويش الفلافل أو صحن الفلافل يحوي سيمفونية رائعة من الخضار البقدونس والبصل الأخضر المفروم والفجل والنعنع وكبيس اللفت والطرطور تغطي جميعها أقراص الفلافل السمراء الحارة، وعلى جانبها قرون الحر المخلل، وقد اشتهر في صناعتها "فلافل المصري" و"إيلي فريحة" فاستحقت الجمهورية أن تسمى بإسمها "جمهورية الفلافل"، كانت المنقوشة بالزعتر والكعكة بالزعتر وصحن الفول وسندويش الفلافل يمثلون رغد العيش في الجمهورية الفتية التي تزاحمت الأسماء والصفات عليها أيام عيشها الرغيد.
اشتهرت بيروت بإبداعاتها في أحيائها وأسواقها وتتطور الأذواق فيها، فما الذي حصل لتصل بيروت والناس فيها إلى ما هي عليه اليوم؟
ما دفعني لإستعراض هذا التاريخ الذي هو بعيد عن الخيال والتأليف، سلسلة المهرجانات المكلفة التي قامت وتقوم بها بلدية بيروت، وآخرها بدعة الدعوة لاستعمال الدراجات الهوائية التي افتتحها رئيس البلدية والنواب في تظاهرة فولكلورية لا معنى لها ولا فائدة، فزحمة السير وكمية السيارات والدراجات النارية التي تقفز بين الناس والمركبات وعدم توفر طرق خاصة للدراجات الهوائية، وبالأخص عدم توفر طرق صالحة لا للسيارات ولا لسير المواطنين، فطرقات لبنان عامة وبيروت خاصة وهي العاصمة السياسية والإقتصادية والثقافية للبنان النور والإشعاع والحضارة التي عمرها آلاف السنين كما أخبرونا، ليس فيها طريق غير محفورة أو مرقعة، فاستحقت بامتياز تسمية "جمهورية الطرق المرقعة" والأرصفة المسدودة التي أصبحت مواقف للسيارات وليست طرقا للمشاة، ناهيك عن مركبات الركاب "الفانات" الخاصة التي لا تصلح حتى لنقل البهائم، كل هذا ما يحول حياة الرغد إلى كابوس مقيم يبدأ منذ ضوء الصباح ويستمر حتى ما بعد سواد الليل.