تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
د. ميشال الشمّاعي
سنة 1923 يوم أظلمت السّماء، وبعدما تعلّقت مشانق الحريّة على مقاصل العملاء في ساحة الحريّة، وسط مدرسة الحقوق، في عاصمة الحريّة بيروت، نشر الثّائر المتمرّد، إبن بشريّ والأرز، المفكّر جبران خليل جبران كتابه تحت عنوان " البدائع والطّرائف" وضمّنه مجموعة مقالات وبعض القصائد. ومن ضمن هذه المجموعة مقال " لكم لبنانكم ولي لبناني" يعبّر فيه عن مدى غضبه مطلِقًا ثورته على الذين أساؤوا آنذاك إلى لبنان الحريّة، لبنان قدس الأقداس واعتقلوه في معابد عهرهم ولصوصيّتهم وصفقاتهم.
واليوم بعد أقل من قرن بنيّف، ما زال التّاريخ هو هو، يعيد نفسه مع اختلاف الأسماء والعهود واللّصوص. والمفارقة أنّ مقال جبران كتب بعد إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، ولم نكد نحتفل بهذه المئويّة حتّى تاريخنا دفعنا إلى إعادة إحياء ما كتبه جبران.
لهم لبنانهم ولنا لبناننا.
لهم لبنانهم وصفقاته، ولنا لبنان وجمالاته.
لهم لبنانهم بكلّ ما فيه من مشادّات ومنازعات، ولنا لبناننا بما فيه من التّفاهمات والحوارات.
لهم لبنانهم، واقتنعوا به، ولنا لبناننا، ونحن لا نقتنع بغير المجرّد الذي بسط يديه على الصّليب ورحل لنبقى أحرارًا.
لبنانهم عقدٌ سياسيّة وعصيٌّ يضعونها في عجلات التقدّم ليقبعوا في الجهل، أمّا لبناننا فأرز أخضر دائم لا يرى إلّا الرّبّ.
لبنانهم مشاكل مع المجتمع الدّولي تتقاذفها المنابر والحناجر، أمّا لبناننا فوادٍ قاديشيٍّ ساحرٍ لم تمسّه أيديهم بعد، فيه أصوات الأجراس وترانيم الرّهبان وتنغيمات السّواقي والنّسائم.
لبنانهم صراع بين الشّرق والغرب، أمّا لبناننا فملتقى حضارات هذا الشّرق وذلك الغرب على خطى المطران الرّاحل سليم الغزال وهدي المفكّر شارل مالك.
لبنانهم كفر وعهر وجور، أمّا لبناننا فصلاة وإيمان وعدالة فيه الرّعاة يقودون قطعانهم ويسيرون أمامها، وليس وراءها، ليعودوا مساء إلى سيرهم مطمئنّي البال بأنّ شمس الحريّة والعدالة والمساواة ستشرق عليهم في صباح اليوم التّالي.
لبنانهم حكومة رؤوسها لا تحصى، أمّا لبناننا، فجيل شباب مستوطن بين البحر والسّهل يعيش الأبد المستمدّ من أزل ليكتب سرمديّة وطن لن يموت.
لبنانهم مربّعات أمنيّة كمربّعات الشّطرنج ملوّنة بين الأسود والأبيض، يتقاذفها بعض رؤساء الأديان والأحزاب، أمّا لبناننا فحدود مربّعاته من حجارة كنيسة أرز الرّبّ، ندخله بالرّوح كلّما نملّ من قيح أجسادهم الماديّة.
لبنانهم طوائف وأحزاب، أمّا لبناننا فأطفال الغد الذين يسعون إلى المجرّد الذي لا يسجد إلا لبساطة الأطفال وبراءتهم.
لهم لبنانهم ولنا لبناننا.
ولبنانهم له أبناؤه أمّا لبناننا فأبناؤه له.
أبناؤهم ولدت أرواحهم في مستشفيات الغرب المتحضّر أمّا أجسادهم فتحارب حضارة الشّرق.
أبناؤهم يصارعون الحياة على سفينة البقاء فيغرقونها ويغرقون قبلها.
أبناؤهم فصحاء المنابر بعضهم على بعض وخرسان وضعفاء أمام صوت الحقّ والضّمير.
هم أحرار ومصلحون لكن بالكلام فقط، أمّا واقعهم فهو انقياد وعمالة واستزلام.
نقيقهم يردّد صرخات التحرّر من طواغيتهم، ولكنّ هذه الطّواغيت ما برحت تعيش في أجسادهم.
هؤلاء هم أبناء لبنانهم، فما أكبرهم في عيونهم وما أصغرهم في عيني !
ولكن مهلكم يا سادة لأريكم أبناء لبناني:
هم الفلّاحون الذين نحتوا الجبال وحوّلوها إلى سهول غنّاء.
هم الرّعاة الصّالحون الأمناء على مسيرة أجدادهم.
هم البنّاؤون الحقيقيّون ومعلّقوا الأجراس في قبب السّماء بعد أن نزعتها أيدي الشّرّ من قبب كنائسهم.
هم الذين يشربون كأس الحريّة في كأس من خشب الأرز نحتها نسّاك الوادي المقدّس، ويرفضون شرب كأس الذمّيّة والاستزلام ولو في كؤوس من ذهب.
هؤلاء هم السّائرون حتّى الشمس ومسيرتهم لا تتوقّف أو تموت بموت قائدها. هم يستولدون القائد القابع في قرارة نفس كلّ منهم وفي كلّ لحظة، لذلك مسيرتهم مستمرّة ولا تتوقّف.
واليوم كلّنا إيمان. كما أنّ الزّمن لم يحفظ تدليس من يفاخرون بانتمائهم إليه من مئة عام ونيّف، هكذا سيرميهم جيفًا في سهول النّضال لتلتهمها نسور الكرامة.
أتظنّون أنّ أبناء القبور والظلام سيتغلّبون على أبناء الحياة والنّور؟ أتتوهّمون أنّ الكرامة تقبل بارتداء أثوابًا بالية رثّة من خيوط الذلّ مصنوعة؟
أقول لكم والحقّ يشهد على كلامي هذا، إنّ العرائش وشجر التّين والزّيتون التي أماتها عطش الكرامة يوم ترك أبناؤنا أرضهم ليبقوا أحرارًا، بقيت حيّة في نفوسهم، وأعادوا إحياءها مع أبنائهم عندما عادوا إلى أرضهم وبقوا أحرارًا. محراث هؤلاء لأشرف وأنبل من طموحات من ظنّ بأنّ أرضنا تموت.
أقول لكم وضمير الحقّ والوجود والحياة صاغٍ إلى أقوالي، إنّ موّال عتابا وميجانا واحد يتردّد صداه في وديان الرّعاة الحقيقيّين لأطول عمرًا من كلّ ما يقوله وجهائهم.
هم لا يعلمون أنّهم ليسوا بشيء في هذه الدّنيا.
لهم لبنانهم ولنا لبناننا.
لهم لبنانهم وأبناء لبنانهم فليقتنعوا بهم كاقتناعهم بفقاقيع إنجازاتهم الفارغة التي يسكنها هواء فسادهم وصفقاتهم، أمّا نحن فمقتنعون بلبناننا وأبنائه، وفي اقتناعنا هذا طمأنينة جذورها دماء قوافل وقوافل من الشّهداء الأبرار والقديسين رحلوا لنبقى وليبقى لبنان. ونبقى.