| تابعنا عبر |
|
 |
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه

#الثائر
رئيس تحرير موقع الثائر " اكرم كمال سريوي "
بعيداً عن العواطف والمشاعر الدينية والقومية للعرب واليهود، لا بد من مقاربة القضية الفلسطينية انطلاقًا من الوقائع الموجودة على الأرض، في أي محاولة لايجاد تسوية تضمن الأمن والسلام في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة من العالم، والمتنازع عليها منذ آلاف السنين.
لم يعد بإمكان العرب إنكار وجود أكثر من ثمانية ملايين مستوطن يهودي يعيشون الآن في إسرائيل، ولا يمكن أيضاً لإسرائيل انكار وجود أكثر من ستة ملايين فلسطيني يعيشون في فلسطين المحتلة وغزة، اضافة إلى عدد مماثل تم تهجيرهم إلى دول الجوار وبقاع الأرض، وما زال قسم كبير منهم ينتظر حق العودة الى الوطن.
منذ عام 1948 طرحت الأمم المتحدة مسألة تقسيم فلسطين إلى دولتين، لكن العرب تمسكوا بحقهم في كامل فلسطين، وبالرغم من عدم صدور موقف معارض لهذا القرار من قبل اليهود، لكن الوثائق تكشف أنهم كانوا يخططون للسيطرة على كامل فلسطين، والآن يكشف نتنياهو عن طموحاته، محاولاً دغدغة مشاعر دينية توراتية لدى اليهود، ليخبرهم عن خططه لإقامة إسرائيل الكبرى، التي ستضم اضافة الى فلسطين، أراضي لبنان وسوريا والاردن، وأجزاء من مصر والسعودية والعراق والكويت، ثم يضيف بأنه مكلف بمهمة إلهية لتحقيق هذا الحلم.
يعلم قادة إسرائيل، ومَن خلفهم من أصحاب مشاريع تفتيت المنطقة العربية والسيطرة على ثرواتها، أن المعوّقات أمام حلم إسرائيل الكبرى كثيرة وكبيرة، خاصة المسألة الديموغرافية، فالسيطرة على الأرض وإن تحققت مرحلياً، لا بد لها من دعم واستدامة العامل الديموغرافي، المؤيد والداعم لبقائها، وإلا ستتفكك وتنهار هذه الدولة بعد أقل من جيلين.
يرى اليهود أن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل في فلسطين، يشكّل خطراً وجودياً دائمًا عليهم، ولذلك يرفض اليمين الاسرائيلي فكرة حل الدولتين بشكل مطلق، ويدعو إلى تهجير الفلسطينيين بالقوة من غزة ومن الضفة، لكن مشروع التهجير اصطدم برفض مصري واردني وعربي لهذا الطرح، وبات من الصعب تحقيقه، وبالتالي فإن تنفيذه بالقوة سيكون بمثابة إعلان حرب على هذه الدول.
نقض نتنياهو ورفاقه في اليمين الاسرائيلي المتطرف كل اتفاقات السلام مع الفلسطينيين، ولم يتركوا شيئا من اتفاق أوسلو، ولقد قدم الانقسام الفلسطيني بين السلطة وحماس، خدمة جليلة للمشروع الاسرائيلي.
عملت إسرائيل على الترويج لفكرة المظلومية، واستغلت مسألة المحرقة ومعاداة السامية، لكسب تعاطف عالمي، وحاولت لصق تهم الإرهاب بالفلسطينيين، ونجحت الدعاية في قلب المفاهيم، فبدل أن يرى العالم إسرائيل كسلطة احتلال تغتصب الأرض، وتقيم عليها المستعمرات، وتستقدم اليهود من شتى الدول، لتهبهم أراض تمت مصادرتها من أصحابها الفلسطينيين، بات قسم كبير من العالم خاصة في الغرب يصدق أن الفلسطيني هو المعتدي.
وركّز نتنياهو في اجتماعه الأخير في واشنطن، مع خبراء كبار في وسائل التواصل الاجتماعي، على أهمية تلميع صورة إسرائيل، وحذف ومحاربة كل ما يسيء له ولاسرائيل، وهو يدرك جيداً أهمية هذه المعركة المرتبطة بالوعي البشري، والحرب النفسية والإعلامية، على استمرار الدعم الدولي لإسرائيل، لتحقيق طموحاته الكبرى.
تناسى العالم عبر عقود من الزمن، حقيقة أن الفلسطينيين يقيمون في هذه الأرض منذ آلاف السنين، وأنهم أصحابها الحقيقيون، ومن حقهم الدفاع عنها في مواجهة سلطة الاحتلال، بكل الطرق الممكنة لتحريرها، ومن حقهم تقرير مصيرهم، وهذا حق ثابت لهم، وفقاً لنصوص ميثاق الأمم المتحدة.
لم تعد مسألة فلسطين اليوم مسألة حق وباطل، بل بتنا أما معادلة القوة والضعف، والقوي هو الذي يفرض شروطه، لكن حتى هذه المعادلة لا ترتبط بالسلاح والجيش فقط، اللذين تتفوق بهما إسرائيل، فهناك عوامل عديدة لقوة الدولة، أهمها عامل؛ الإرادة، والعقيدة، والارتباط بالأرض، وفي هذا الجانب يتفوق الفلسطينيون على المستوطنين، لأن المستوطنين وافدون، وبغالبيتهم لا يصدقون خرافات أرض الميعاد، ولا يهتمون سوى بما تقدمه لهم الدولة من خدمات وامتيازات، وما توفره لهم من فرص لعيش آمن وكريم.
بنظرة واقعية، من الواضح أن السلام والتسوية الشاملة في فلسطين لا يمكن أن يتحققا بالقوة، فمن غير المقبول أو الممكن ذبح وتهجير ستة ملايين شخص فلسطيني، كما من غير المقبول أو الممكن ذبح وتهجير أكثر من ثمانية ملايين مستوطن يهودي، فهذه الطروحات ستكون عمليات ابادة لا أخلاقية ولا إنسانية، ولا يمكن لعاقل أن يقبلها.
امام هذه الاستحالة يجب البحث عن طرق أخرى للتسوية، والتي تتأرجح بين حل الدولتين، أو الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي.
يدفع العالم باتجاه تبني حل الدولتين، وتم الاعتراف بدولة فلسطين من قبل عدد كبير من دول العالم، في المؤتمر الذي رعته فرنسا والمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة.
لكن هذا الحل ما زال يصطدم بعقبة الرفض الاسرائيلي والأمريكي له، كما يصطدم بعقبة العقيدة الدينية لدى المتطرفين اليهود، الذين يريدون إسرائيل الكبرى، وأقروا يهودية الدولة الإسرائيلية في فلسطين، التي لا يتساوى فيها اتباع بقية الاديان مع اليهود، ولا يملكون نفس حقوق المواطنة.
قانون يهودية الدولة أغلق الباب أيضاً أمام إمكانية قيام دولة واحدة للفلسطينيين والاسرائيليين، بحيث لا يمكن للفلسطينيين القبول بدولة على أرضهم، يكونون فيها مجردين من الحقوق، ومن المشاركة الحقيقية في الحكم.
أمام هذا الواقع تبدو فرص التسوية النهائية معدومة والحلول شبه مستحيلة، ففيما تراهن إسرائيل على استخدام القوة المفرطة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة والتخلي عن الأرض، يتمسك الفلسطينيون بحقهم في تقرير المصير واقامة دولتهم المستقلة، وحقهم في مقاومة الاحتلال، ولذلك تصبح المسألة مسألة إرادة ومعركة مستمرة لن تنتهي باحتلال غزة كما يعتقد نتنياهو، ولا بمؤتمر دولي للاعتراف بدولة فلسطينية، تبقى مجرد حبر على ورق.
هذا الصراع طويل ومرير، وسيدفع فيه آلاف الفلسطينيين واليهود ثمناً باهضاً، من ارزاقهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم، وهناك فارق رئيسي بين المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلي، وتجارب مقاومات الشعوب الاخرى، من كوبا الى فيتنام الى الجزائر الى لبنان وافغانستان وغيرهم من دول وشعوب.
فجيوش الاحتلال في تلك الدول كان لديها وطنها الاصلي، لتعود إليه وينتهي الاحتلال، فيما لم يعد هناك وطن ليعود إليه الاسرائيليون، خاصة الذين ولدوا وعاشوا ويعيشون في فلسطين منذ عشرات السنين، كما لا يوجد وطن آخر يذهب إليه الفلسطينيون سوى فلسطين.
كل هذا الصراع والمآسي، تم ويستمر خدمة لمصالح استعمارية، بدأتها بريطانيا في بداية القرن الماضي، وأضيفت اليها اليوم خدمة المصالح الأميركية، كما أعلن نتنياهو نفسه في خطابه أمام الكونغرس، ويبقى الخاسر الأكبر هما الشعبان المُستغَلّان الفلسطيني واليهودي، اللذين يعتقدان أن القتال فعلاً هو على حق تاريخي وإلهي بهذه الأرض، وأن القوة وعمليات القتل والابادة ستجلب لهم الأمن والسلام، رغم أن النتيجة واضحة، وهي مزيد من الخراب والدمار والمآسي وفقدان الأمل، والله بريء من تلك الأكاذيب والألاعيب الاستعمارية، التي يقودها أرباب المصالح والمال والتي لا شك أنها ستدمر المنطقة والعالم.
يتم الاحتفال اليوم بوقف القتال في غزة، لكن يبدو أن هذه مجرد تسوية مؤقتة لجولة من الجولات، ومرحلة هدنة قد تطول أو تقصر تبعاً للظروف، لكن من الواضح أنها لم تنهِ هذه الحرب، ولم تضع أسس لحل عادل وشامل.
هذه الحرب استمرت وتستمر لأسباب عديدة، ومعضلات استعصت على الحل، لأن سياسة المصالح الاستعمارية، والجموح نحو الهيمنة، واعتماد سياسة القوة والقتل، بهدف تحقيق نبوءات إبادة الآخرين واستعبادهم، وتحقيق النصر المطلق، وإطلاق العنان للغرائز، طغى على لغة العقل والسلام، وازدياد التطرف الديني، والايمان بخرافة شعب الله المختار في إسرائيل، لم ولن يترك أي فرصة للسلام.