تابعنا عبر |
|
 |
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه

#الثائر
صالح م. نصولي، المدير السابق لصندوق النقد الدولي، الكلمة الرئيسية في مؤتمر المعهد الدولي للتمويل
25 فبراير 2025
أود، بدايةً، أن أتقدم بالشكر للمعهد الدولي للتمويل على تنظيم هذا المؤتمر في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها لبنان، حيث يواجه البلاد أزمات وجودية مترابطة ومتعددة. كما أود أن أعرب عن تقديري للدكتور غاربيس إيراديان على تقريره الممتاز والشامل والمتوازن الذي يوفر أساسًا متينًا لنقاشنا اليوم، ويشرح بوضوح مدى الأزمة الاقتصادية والمالية، ويحدد الإجراءات السياسية اللازمة، ويؤكد كميًا في حالتين على الأثر الإيجابي للإصلاحات مقابل استمرار التدهور في حال إجراء "إصلاحات محدودة" فقط - وهذا الأخير، بصراحة، تعبير ملطف عن "الفشل في الإصلاح". سأركز في ملاحظاتي على السياق الأوسع.
بيت منقسم
1.في خطاب ألقاه في 16 يونيو/حزيران 1858، قال أبراهام لنكولن عبارته الشهيرة: "البيت المنقسم لا يثبت"، في إشارة إلى الآراء المتباينة بين الأمريكيين حول العبودية. وقد استُمد هذا المصطلح من الكتاب المقدس، الذي ينص على أن الرب قال: "كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت" (متى 12: 25). وللأسف، هذا بالضبط ما حل بلبنان. الأزمات الحالية التي تواجه البلاد هي نتيجة انقسامات سياسية وطائفية متجذرة.
لطالما كانت هذه الانقسامات، على مدى سنوات عديدة، مصدرًا لـ"نظام الغنائم" الذي نتج عنه، من بين أمور أخرى، فساد واسع النطاق، وسوء إدارة، وضعف إدارة حكومية، وسوء إدارة للسياسات العامة، ونظام قضائي غير فعال، ومشاكل أمنية
وقد أدت هذه العوامل إلى اندلاع أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة في أواخر عام 2019، وُصفت الأزمة الاقتصادية والمالية بأنها من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في التاريخ. وقد أدت التوترات الإقليمية، وتدفق أكثر من مليوني لاجئ سوري، والدمار الهائل الذي لحق مؤخرًا بمناطق في بيروت والعديد من القرى الحدودية إلى تفاقم الوضع.
كان للانهيار الاقتصادي عواقب وخيمة على الشعب اللبناني. فقد أدى التضخم المتصاعد، وارتفاع معدلات البطالة، وتراجع القدرة الشرائية إلى تراجع غير مسبوق في مستوى المعيشة، مع تضاعف معدل الفقر ليصل إلى 80% خلال السنوات الأربع الماضية. ويعاني القطاع المصرفي، الذي كان ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد، من حالة من عدم اليقين، حيث يجد المودعون مدخراتهم غير متاحة. وأصبحت الليرة اللبنانية بلا قيمة تقريبًا.
وكان من الممكن تجنب هذه الأزمة لو تم تنفيذ السياسات التصحيحية على وجه السرعة.
٢. السجل الحافل
شُكِّلت حكومة "إصلاحية" جديدة، برئاسة حسان دياب، في عام ٢٠٢٠. لم تتمكن هذه الحكومة من تنفيذ أي إصلاحات، بل إنها طبقت، بالتعاون مع مصرف لبنان، سياساتٍ عكسية، مثل التخلف عن سداد سندات اليوروبوند، وتطبيق أسعار صرف متعددة مشوهة، ولوائح مصرفية مؤقتة قوضت الثقة بشكل أكبر، وأدت إلى انخفاض حاد في قيمة العملة المحلية.
السوق الموازية.
في عام ٢٠٢١، شُكِّلت حكومة "إصلاحية" ثانية، برئاسة نجيب ميقاتي، ركّزت على معالجة الأزمة. ومرة أخرى، استمرت السياسات الخاطئة نفسها، ما خلّف آثارًا سلبية. وتم التفاوض على اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج إصلاحي. ورغم أن الاتفاق تضمن العديد من الإجراءات التصحيحية المهمة والمناسبة، إلا أنه تضمن عدة تدابير أثارت معارضة واسعة النطاق، أبرزها خفض قيمة الودائع وفرض ضوابط على رأس المال. وكان من شأن خفض قيمة الودائع أن يزيد من تقويض الثقة في النظام المصرفي، في حين أن ضوابط رأس المال كانت ستؤثر سلبًا على تدفقات رأس المال الخاص، وأن توسّع السوق الموازية.
بشكل عام، أعاقت الطبيعة السياسية للحكومتين، وتداعيات "الانقسام الداخلي"، أي تقدم نحو الإصلاح في ظل هاتين الحكومتين "الإصلاحيتين"، وأعاقت تنفيذ الإجراءات السابقة المنصوص عليها في برنامج صندوق النقد الدولي.
٣. العهد الجديد
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان هناك، في ظل هذا السجل الحافل، احتمال للمضي قدمًا نحو الإصلاحات.
لقي انتخاب رئيس جديد مؤخرًا، بأغلبية ساحقة، ترحيبًا واسعًا من اللبنانيين. وقد لاقى خطاب قبوله صدىً عميقًا من الأمل والعزيمة، مُحددًا رؤية تعكس تطلعات الأمة. وقد شكّل، في رأيي، دعوةً للوحدة بين مختلف الفصائل في هذه الأوقات العصيبة.
وتشكلت حكومة "إصلاحية" ثالثة في الأسبوعين الماضيين، برئاسة نواف سلام، الذي يتمتع بمصداقية دولية بصفته الرئيس المنتهية ولايته لمحكمة العدل الدولية. وقد أبرز تشكيل الحكومة الجديدة مرة أخرى "تأثير الانقسام". ومع ذلك، فإن الحكومة التي شُكّلت في النهاية تضم الآن وزراءً يتمتعون بمؤهلات عالية في الغالب، على الرغم من أن العديد منهم ينتمون إلى تيارات سياسية.
أشعر بتفاؤل خاص لأن وزير الاقتصاد الجديد المستقل، عامر بساط، الذي يتمتع بخبرة واسعة في صندوق النقد الدولي، والذي أبهرني كخبير اقتصادي بارز عندما عملنا معًا، سيُسمح له بالمضي قدمًا في تصميم برنامج إنعاش شامل. وفي هذا الصدد، أُطمئن بأنه على اتصال الآن بالرئيس المستقل للجنة الاقتصادية النيابية، الدكتور فريد بستاني، الذي يلتزم التزامًا تامًا بالدفع قدمًا بالإصلاحات اللازمة. إن تعاونهما، الذي يعكس العمل المشترك بين الحكومة والبرلمان، يبشر بالخير.
مع ذلك، فإن سجل لبنان الحافل يُجبرني على توخي الحذر في تقييمي لآفاق الإصلاحات، لا سيما وأن تشكيل الحكومة كشف عن هيمنة "تأثير الانقسام الداخلي"، وأن الانقسامات السياسية قد تُشل الحكومة مرة أخرى. إن الاحتمالات التي وضعها معهد التمويل الدولي للسيناريوهين المطروحين هي نفسها الاحتمالات المرتبطة برمي قطعة نقود. ومع ذلك، أرى أن سجل الأداء والرياح المعاكسة المحتملة تُرجّح السيناريو الثاني.
الطريق إلى الأمام
خلال زيارتي للبنان عام ٢٠٢٢، التقيتُ بمسؤولين حكوميين وكتل برلمانية وعددٍ من النواب. حثثتُ على الوحدة، ووضعتُ برنامجًا إصلاحيًا مفصلًا يُجسّد الرؤية التي صاغها الرئيس جوزيف عون. وأكدتُ على ضرورة وجود مجلس وزراء كفاءات مستقل يُركز على تنفيذ الإصلاحات الجوهرية اللازمة. كما أجريتُ مناقشات مع الجمعية الاقتصادية اللبنانية، وتواصلتُ مع جمعية المودعين بشأن أهمية معالجة محنة المودعين، وأجريتُ مناقشاتٍ مُوسّعة مع رئيس اللجنة الاقتصادية النيابية. ولا تزال هذه المناقشات مستمرة، وما زلتُ أُشدد على الحاجة المُلحة للبنان لوضع وإطلاق برنامج إصلاح شامل. وينبغي أن يُشرك إعداد هذا البرنامج المجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية والجهات المانحة. وهذا أمرٌ أساسيٌّ لملكية الدولة، إذ يُعزز فرص نجاح تنفيذه. كما أنه ضروريٌّ لحشد الدعم المالي الهائل اللازم ولإعادة هيكلة الديون. أي برنامج لاستعادة الثقة سيحتاج إلى حماية ستة ركائز أساسية للاقتصاد خدمته جيدًا على مدى عقود، والتي سُلِّط الضوء عليها أيضًا في تقرير معهد التمويل الدولي:
نظام مالي سليم: يجب على لبنان إعادة هيكلة النظام المصرفي لضمان سلامته واستعادة الثقة. وينبغي أن يشمل ذلك تعزيز الأطر التنظيمية، وفرض الالتزام بالشفافية المصرفية، واتخاذ تدابير لاستعادة الوصول الفوري إلى الودائع المصرفية بشكل كامل في سياق برنامج إصلاح شامل. ويجب أن تكون حماية حقوق المودعين في صدارة الأولويات، ليس فقط من خلال حماية الودائع الجارية بالكامل، ولكن أيضًا من خلال سن إطار واضح وملزم قانونًا لحماية الودائع بالكامل.
سعر صرف موحد عائم يحدده السوق: كانت المحاولة المصطنعة لتحديد سعر الصرف عند مستوى تعسفي في قلب الأزمة المالية الحالية، والتي ازدادت تعقيدًا بسبب إدخال أسعار صرف متعددة مشوهة. إن الحاجة إلى سعر صرف موحد شفاف ومتغير، يحدده السوق، أمر بالغ الأهمية لاستعادة التوازن في سوق الصرف الأجنبي، وحماية الاحتياطيات، والقضاء على التشوهات، وتعزيز الاستثمار والنمو.
الثقة في العملة: انطلاقًا من نجاح إصلاح العملة الذي نفذته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لمكافحة التضخم المفرط وإنعاش الاقتصاد، يحتاج لبنان إلى تطبيق إصلاح نقدي لاستعادة ثقة الجمهور في النظام النقدي من خلال طرح عملة لبنانية جديدة، مدعومة بسياسات نقدية ومالية سليمة.
نظام مدفوعات خارجية حر: من الضروري تجنب ضوابط رأس المال، التي من شأنها تعزيز السوق السوداء، وخنق النشاط الاقتصادي، وتثبيط الاستثمار المحلي والأجنبي. بدلاً من ذلك، ينبغي إنشاء إطار عمل متين وشفاف للمدفوعات الخارجية يسمح للشركات والأفراد بالتعامل بحرية. وهذا من شأنه أن يُسهم في دفع عجلة التجارة والاستثمار.
٥. شفافية الحوكمة: يتطلب ذلك إصلاح النظام القضائي لضمان التطبيق الفعال لسيادة القانون، وتطبيق تدابير مكافحة الفساد لمكافحة استمرار الفساد الذي أضعف ثقة الجمهور وأضرّ بالنشاط الاقتصادي.
٦. شبكات الأمان الاجتماعي: في ظلّ تطبيق لبنان لهذه الإصلاحات، من الضروري تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي الهادفة إلى تخفيف معاناة الفئات الأكثر ضعفًا من السكان. ويمكن لبرامج المساعدة المُوجّهة أن تُوفّر الإغاثة اللازمة.
لا شكّ في أن هذه الركائز لا يُمكن صيانتها بفعالية بمفردها، بل فقط في سياق برنامج إنعاش وطني شامل، يكون مملوكًا للدولة، ويُوضع بالتعاون مع المؤسسات الدولية، وتحديدًا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومجتمع المانحين، وبدعم منها.
لقد ثار جدلٌ حادٌّ حول من تقع عليه المسؤولية النهائية عن شحّ سيولة النظام المصرفي، وأثارت نظريات مؤامرةٍ لا تُحصى. تقع مسؤولية فقدان مقابل الودائع بالعملات الأجنبية على عاتق المصرف المركزي وحده، الذي استخدمها بشكلٍ رئيسي لدعم سعر صرفٍ ثابتٍ مُبالَغٍ فيه، وتجاهل حاجة البنوك التجارية إلى الالتزام بالممارسات التحوطية. ولأنه مؤسسةٌ عامة، فإن المسؤولية النهائية تقع على عاتق الحكومة - وليس على عاتق المودعين الأبرياء.
يتعيّن على برنامج الإنعاش المطلوب الآن أن يأخذ في الاعتبار تحدي إعادة الإعمار الهائل الذي أعقب القصف الإسرائيلي الذي أوقع آلاف الضحايا ودمّر قرىً بأكملها في الجنوب، بالإضافة إلى أجزاءٍ كبيرةٍ من بيروت وضواحيها. وقد قدّر البنك الدولي التكلفة الإضافية لإعادة الإعمار بأكثر من 14 مليار دولار. وسيتعين على الحكومة معالجة هذا التحدي الإنساني بشكلٍ عاجلٍ لتجنب فراغٍ محتملٍ قد تملأه قوىٌ بديلةٌ مُزعزعةٌ للاستقرار.
ملاحظة ختامية
اسمحوا لي أن أختتم بملاحظةٍ أخيرة. لا يُمكن حل هذه الأزمة بتدفقات المساعدات الخارجية أو الزيارات المتقطعة لكبار الشخصيات الأجنبية أو ممثلي المؤسسات الدولية فحسب. إنها تتطلب تغييرًا جذريًا في السياسات. الإصلاحات المطلوبة طموحة، لكنها أساسية، ويمكن تنفيذها بسرعة.
هناك إمكانية لخروج لبنان من هذه الأزمة أقوى وأكثر مرونةً وقدرةً على تحقيق وعوده الاقتصادية - ولكن فقط إذا استطاع اللبنانيون التغلب على "أثر الانقسام الداخلي" من خلال توحيد صفوفهم والتركيز فقط على مصلحة وطنهم، لا على مصالح الدول الأخرى. لا سبيل آخر لإنقاذ بيت منقسم.