تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- اكرم كمال سريوي
دفعت الدولة اللبنانية ١،٣مليون دولار على خطة ماكينزي للنهوض الاقتصادي، المقترح على مدى خمس سنوات، اي حتى عام ٢٠٢٥. وتم تقديم الخطة في تموز الماضي، واعتقد الكثيرون ان الفرج بات قريباً، مع وعود بنمو سنوي يصل الى ٦٪، وتأمين ما يقارب ٣٧٠ الف فرصة عمل، وخفض نسبة البطالة من ٢٥٪الى ٨٪. اما النتيجة الحقيقية للخطة، فقد باتت معروفة، ولم تتجاوز هدر الوقت والمال العام .
عكف خبراء الاقتصاد، من هواة شاشات التلفزة والشهرة، وما أكثرهم، الى التبشير منذ مدة، بالانهيار القادم. ولاقاهم في ذلك بعض رجال السياسة، وقدّم بعضهم كلاماً عاماً في الاصلاح، لم يرقَ الى مستوى مشروع إنقاذي متكامل. وتعاطى المسؤولون وما زالوا، بكل استخفاف مع الأزمة القائمة، وحاول كل طرف، إلقاء اللوم على الآخر، والتنصل من المسؤولية .
نزل الشعب الى الشارع، معترضاً على سياسة فرض الضرائب، ومطالباً بالإصلاح ووقف الهدر والفساد. وكشف الاعلام كماً هائلاً من ارتكابات السلطة، على مدى سنوات، أدت الى ما نحن فيه من وضع مالي مأساوي اليوم. لكن المطالبات ايضاً، بقيت في سياق عام، واتهامات غير مؤكدة، لا تخلو من الكيدية السياسية أحياناً، دون تبني برنامج اصلاحي شامل .
يحتاج لبنان الى خطة متكاملة لانقاذه، لم توفرها دراسة ماكينزي وفقاً لرأي معظم الخبراء الاقتصاديين، على أهمية بعض ما تضمنته. ولذلك سنقدم لاحقاً مع بعض الخبراء، الى الحكومة المقبلة، خطة مفصلة علنية، كمساهمة شعبية للحل وتخليص لبنان من أزمته. ونعرض الآن اهم النقاط التي سيتم التركيز عليها، وننتظر من متابعي الثائر، ابداء الآراء والمشاركة الفعالة بالمقترحات، حتى لا تكون الثورة مطالب فقط دون تقديم الحل البديل .
اولاً: نعلم جميعاً ان لا حل اقتصادي، بمعزل عن السياسة. فأولوية الاصلاح تبدأ بالخيار السياسي في لبنان، ولن تُجدي نفعاً اية حلول او اجراءات، اذا استمر الفرقاء، بسياسة الدخول في المحاور الإقليمية والدولية. ولا يمكن بعد ما حصل اليوم، الاكتفاء بشعار الحياد الوهمي، بل يجب تطبيقه فعلياً، من قبل جميع الأطراف، خاصة المشاركة في السلطة .
ثانياً: لا نهوض بدون الدولة الفعلية، وبسط سيادتها على كامل أراضيها، خاصة على المعابر والحدود البرية والبحرية، حيث يستنزف التهريب قدرات الاقتصاد اللبناني، اضافة الى الفساد والهدر في مؤسساتنا الحالية. وهذا خيار لا بد منه، وعلينا ان نقرر هل فعلاً نريد دولة في لبنان؟ وان يُطبّق القانون على جميع المواطنين؟ ام سنتمسك بالدويلات القائمة، والمحميات المذهبية ؟
صحيح ان نظامنا الطائفي سيّء، ويجب ان نبني الدولة العلمانية. لكن هذا لن يحدث بين ليلة وضحاها، في مجتمع مشبع بهذه الغرائز والميول. ثم ان اقتصادنا كان جيداً سابقاً، رغم وجود الطائفية، لأن الدولة كانت قائمة. اما الآن فالدولة غير قادرة على بسط سلطتها كدولة فعلية، وهذا الشلل، سمح باستشراء الفساد في معظم مؤسساتها. ولذلك لا بد في البداية من استعادة هيبة الدولة .
ثالثاً عرف لبنان ازدهاراً في ظل الاقتصاد الريعي، والمشكلة الحقيقية ليست في هذا النمط الاقتصادي فقط، كما يعتقد البعض، بل في شل وتدمير مقومات هذا الاقتصاد الريعي، من السياحة، الى التعليم، والأستشفاء، وتجارة الترنزيت، وغيرها. مما يعني انه علينا، الى جانب التحوّل الى اقتصاد إنتاجي، اعادة تنشيط هذه القطاعات، بتوفير الأمن، والبنى التحتية اللازمة لها، والعلاقات الجيدة مع كافة الدول الصديقة، خاصة الخليجية .
رابعاً: إن المساحات الزراعية في لبنان صغيرة نسبياً، وقد خسرت الكثير امام توسّع القطاع العقاري، واصبح مردودها ضئيلاً امام ثمنها المرتفع، كما ان الطبيعة الجبلية، تفرض صعوبة في استعمال الآلات والتكنولوجيا الحديثة. واذا أضفنا ذلك الى الاستعمال المفرط للأسمدة، والمياه الملوثة، وارتفاع كلفة اليد العاملة، فان الانتاج اللبناني لا يمكن تصريفه او تصديره، لعدم مطابقته للمواصفات الدولية، وارتفاع ثمنه بالمقارنة مع انتاج الدول المجاورة، مثل سوريا والأردن ومصر والسودان وتركيا واوكرانيا .
من هنا يحتاج لبنان الى ارشاد زراعي، وهذا يفرض التخلي عن بعض الزراعات المتدنية الانتاج، كالتبغ والحبوب، والاستعاضة عنها بزراعة انواع اخرى، مثل تشجيع أنشاء المزارع العضوية، وتربية الأسماك والدواجن، وبعض انواع الفاكهة التي يمكن تصديرها الى الخارج، كالتفاح والبرتقال والافوكا واللوز والصنوبر، ومن المعروف ان النبيذ اللبناني، هو من افضل انواع النبيذ في العالم، ويجب تشجيع هذا القطاع بشقيه الزراعي والصناعي، وتدعيم ذلك باتفاقات تبادل تجاري مع الدول الصديقة. ولم نذكر تشريع زراعة الحشيشة، رغم إنتاجيتها المرتفعة، كونها في ظل غياب الدولة، ستشكّل آفة تدمير للمجتمع اللبناني، لن يتبقى بعدها اية قيمة لمردودها المالي .
خامساً: ان الميزان التجاري اللبناني، يعاني من عجز كبير. فالواردات تبلغ حوالي ٢٢مليار دولار سنوياً، مقابل صادرات لا تتجاوز ٣مليارات في افضل الحالات. وهذا يعني ببساطة، أن لبنان لا يستطيع الاستمرار في اتفاقات الإعفاء الضريبي المتبادل، الموقّعة مع بعض الدول، لأنها مجحفة بحقه. ولذلك يجب اعادة النظر بهذه الاتفاقات، وفرض سياسة الحماية الجمركية، خاصة على الأنواع التي لها مثيل مصنّع في لبنان .
سادساً: يعاني لبنان من ضعف قطاعه الصناعي لعدة أسباب. أهمها الكلفة العالية للأنتاج، بسبب عدم توفر المقومات الاساسية له، من كهرباء، ومواد أولية، وارتفاع الأجور، وصعوبة النقل، وعدم الاستقرار، وضعف التشريعات التي تحمي المستثمرين، وغياب التكنولوجيا ومراكز الأبحاث. وبغية حل هذه المعضلة حالياً، لا بد من التركيز على انواع محددة من الصناعات الخفيفة، والتي يمكن ان تجد أسواقاً لها في الخارج، ويمكن عبرها الاستفادة من الكفاءات العلمية الجيدة في لبنان .
وأشارت دراسة ماكنزي، الى صناعة الأدوية، ومستحضرات التجميل، والمواد الغذائية، وهذا جيد. لكن هناك بعض الدول الصغيرة، والتي تمكّنت من التفوق في الصناعات الذكية، وباتت تستقطب شركات كبرى، وهذا مجال مهم جداً، ولبنان قادر على الدخول اليه والمنافسة، خاصة مع الدول المجاورة. ولا بد طبعاً من إنجاز التشريعات اللازمة، لتشجيع الصناعة وحمايتها، وتأمين الاسواق لها عبر الاتفاقات الدولية .
سابعاً: لا بد من اصلاح النظام الضريبي، ومكننة الادارة. فالتهرب الضريبي كبير جداً، كما ان العدالة، تفرض اعتماد الضريبة التصاعدية، على الودائع ورؤس الأموال، والأرباح، فلا يجوز ان يبقى الفقراء، يدفعون نفس النسبة التي يدفعها الأغنياء، واصحاب المليارات .
ثامناً: يجب اخضاع كل اللبنانيين الى ضريبة الدخل. فإن أغنى دول العالم، كالولايات المتحدة الاميركية، فرضت ضريبة على كل من يحمل جنسيتها، أينما كانت أمواله. وهناك عدد كبير من اللبنانيين، الذين يحملون اكثر من جنسية، وبالتالي عليهم المساهمة والقيام بواجباتهم تجاه وطنهم، كما يفعلون اتجاه الدول الاخرى، وكما يطالبون بحقوقهم، من تمثيل سياسي، ومشاركة في الحكم، وأملاك عقارية وغير ذلك، عليهم واجب وطني ايضاً .
تاسعاً: يستهلك القطاع العام مع خدمة الدين العام، نسبة اكثر من ٧٠ ٪ من موازنة الدولة والجميع اقرّ بوجود عدة مشكلات فيهما، فعدد الموظفين ضخم جداً بالنسبة الى دولة صغيرة كلبنان، ويفوق الحاجة، فهناك موظفون لا يحضرون الى مراكز عملهم، او حتى لا وجود لعمل لهم، كعمال سكك الحديد، او قطاع النفط الذي لم يبدأ العمل به والإنتاج بعد، اضافة الى آلاف الموظفين، الذين تم إدخالهم لأسباب انتخابية، دون مراعاة الحاجة او الكفاءة.
والأهم في هذا الموضوع، هي الرواتب العالية، والعلاوات التي يتقاضاها بعض الموظفين، والتي تتجاوز باضعاف راتب رئيس البلاد، او النائب مثلاً . ولم يعد خافياً حجم الهدر، في المصاريف الجانبية للدولة، من تجديد سنوي للأثاث، وصيانة وإيجارات مبان حكومية بمبالغ طائلة. فمن اهم الخطوات اللازمة، باتت عملية اصلاح القطاع العام، وتحديد سقف اعلى لرواتب الموظفين فيه، ومعالجة موضوع المباني الحكومية .
وبالطبع يجب حذو ما فعلته معظم الدول، وحتى الغنية منها، فيما يتعلق بأصلاح نظام التقاعد، خاصة لجهة الغاء التقاعد المبكر في بعض الوظائف، ورفع سن التقاعد وتحديد سقف لتعويضات نهاية الخدمة .
عاشراً: إن لبنان من الدول القليلة التي ما زالت تحتفظ بأصولها، من المطار الى الخليوي، والكهرباء، والمرفأ، والأملاك البحرية والنهرية، وسكك الحديد والطرق وغيرها. وهذا يتطلب استعادة فورية لكامل هذه الممتلكات، وفرض غرامات على مغتصبيها، واعادة تخمينها، واستثمارها بشكل عادل .
احد عشر: يجب المباشرة بإنشاء مشاريع البنى التحتية: عن طريق اشراك القطاع الخاص بها، ليس بالخصخصة، بل بمنحه حق الأستثمار لمدة معينة. كأن تقوم شركة مثلاً، ببناء معامل للكهرباء، مقابل حق استثمار لمدة عشر سنوات، تعود بعدها ملكية المعامل الى الدولة. وهذا يمكن تطبيقه على مشاريع بناء سكك الحديد، وقطار الانفاق في بيروت، وتوسعة المطار والمرفأ، وبناء الاوتوسترادات والإنفاق المدفوعة الاستعمال. وهكذا لا تتكلف الدولة شيئاً، لكنها ستجني أرباح الضرائب على هذه الشركات، ثم ستعود الملكية اليها بعد مدة محددة، وهذا شبيه جداً بما تفعله الدولة مع شركات النفط القادمة للأستثمار في لبنان .
اثنا عشر: اصلاح النظام المصرفي، عن طريق سن التشريعات اللازمة لحماية الزبائن، واعادة ثقة المودعين اليه، والحفاظ على ما يتمتع به من حرية، ومنع المضاربات الغير مشروعة في الاسواق وتهريب الأموال، وفرض نسبة١٠٪ضريبة على ودائع اللبنانيين في الخارج، لدفعهم الى اعادة ودائعهم، والاستثمار في لبنان .
ثلاثة عشر: لا بد طبعاً من خفض نسبة الفوائد لدى البنوك على الودائع، كما على القروض، بغية تنشيط حركة الاستثمار. ويجب فرض التعامل بالليرة على الأراضي اللبنانية، ومنع التعامل بالعملات الاخرى، كما هو معمول به في معظم دول العالم. ولا بد طبعاً ولو تدريجياً، فك ارتباط الليرة اللبنانية بالدولار، وتحرير سعر الصرف لاحقاً، بعد تحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد. لان تحرير سعر الصرف الآن، سيُحدث موجة هلع، تؤدي الى إفقار عدد كبير من اللبنانيين .
أربعة عشر: الإسراع في استخراج النفط، وأعادة تفعيل استخراج الحمّر، الموجود بكميات جيدة في الجنوب، في منطقة حاصبيا، وتشجيع تصنيعه في لبنان، قبل تصديره الى الخارج. وكذلك البدء باستخراج مياه الآبار الجوفية الصالحة للشرب، وتصديرها الى الدول العربية، عبر شركات واتفاقات خاصة، مما يسمح بتأمين كميات كافية من العملات الأجنبية، لتمويل مدفوعات الدولة .
خمسة عشر: معالجة موضوع الدين العام، وهذا يتطلب أولاً استعادة الأموال التي حصلت عليها المصارف بشكل ملتبس، جراء عمليات الهندسة المالية. وثانياً تخفيض الفوائد على سندات الخزينة، وإجبار البنوك على اعادة أموالها من الخارج الى لبنان. وبذلك سيتم خفض عبء خدمة الدين العام، الذي يمثل القسم الأكبر منه ديون داخلية لصالح المصارف. وقد نتمكن من تفادي عمليات الاقتطاع، التي ستصبح حتمية، في حال اعلان الافلاس والانهيار المالي للدولة اللبنانية .
لا يمكن ان يقتصر الاصلاح على فرض الضرائب، وسياسة التقشف. بل يجب على الدولة، حماية مواطنيها، بتوفير الطبابة، وضمان الشيخوخة، والتعليم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والإنماء المتوازن، وتفعيل اجهزة الرقابة، خاصة في المرافق الحياتية الاساسية، كمراقبة الدواء، والأغذية، وحماية المستهلك من الاحتكار والتلاعب بالأسعار .
هذه هي الخطوات العريضة لخطة الاصلاح والنهوض الاقتصادي، والتي سنفصّلها اكثر لاحقاً، في مشروع متكامل، مع مشاريع اخرى، للإصلاح الإداري، والإصلاح التربوي، والإصلاح الانتخابي، والإصلاح السياسي، في لبنان .