تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
- *اكرم كمال سريوي
ليس غريباً ان يُبدي رجال السياسة، تفسيرات متناقضة لمادة قانونية، خاصةً ان اللغة العربية غنية كفايةً بالصور البيانية، التي تجعل نصوصها حمّالة أوجه عديدة، ويصبح الامر اكثر التباساً اذا كان التفسير يستند الى رغبات ودوافع خاصة، في واقع طائفي مأزوم .
وقد يكون الامر مشابهاً أحياناً من وجهة نظر الفقه في القانون، إِلَّا انه يكون اكثر موضوعية ودقة اذا تجرد من العواطف والغرائز ، وتبرز أهمية ذلك عندما يتعلق الامر بمادة دستورية، تُشكّل العامود الفقري للميثاق الوطني، واتفاق أنهى حرب سنوات طويلة بين اللبنانيين.
كاد الخلاف على تفسير المادة ٩٥ من الدستور، ان يُطيح بواحدة من اهم إنجازات الحكومة الحالية، وهي موازنة العام ٢٠١٩، الى ان تم التوافق على مخرج للازمة، قضى بان يوجه رئيس الجمهورية رسالة، يطلب فيها من المجلس النيابي تفسير نص هذه المادة. وهنا سيبرز سؤال جديد بالطبع حول من هي السلطة التي لها الحق بتفسير الدستور؟
يُشكّل المجلس النيابي سلطة تشريعية لسَن القوانين، ولكن الدستور تدارك احتمال وقوع هذا المجلس في الخطأ، وبالتالي تشريع قوانين مخالفة للدستور، ولهذا السبب فرض في المادة ١٩انشاء هيئة رقابية على اعمال المجلس، يكون لها القرار الفصل في مطابقة او عدم مطابقة هذه الاعمال للدستور، ويحق لها ابطال القوانين والتشريعات الصادرة عنه. وهنا من البديهي السؤال عن صلاحية وصحة تفسير الدستور من قِبل المجلس النيابي؟ فلو كان هذا المجلس قادراً على تفسير الدستور بشكل صحيح، لما كان هناك من امكانية لوقوعه في الخطأ وارتكاب مخالفة للدستور، وبالتالي لانتفت الحاجة الى هيئة رقابية على دستورية أعماله. ومن هنا يتضح ان الهيئة الأكثر أهلية لتفسير الدستور، هو المجلس الدستوري وليس المجلس النيابي، ولا يمكن بالطبع الاعتداد هنا بحق المجلس النيابي في تعديل الدستور، لان ذلك يكون عملاً تأسيسياً، له اصوله وموجباته. ولهذا نرى انه من الناحية القانونية كان يُفضّل الاحتكام الى المجلس الدستوري، عن طريق الطعن بالمادة٨٠ من قانون الموازنة، لحسم الجدل في موضوع المادة ٩٥ من الدستور، حول إلزامية اتّباع قاعدة التمثيل الطائفي، في الوظائف من غير الفئة الاولى.
يرتكز الفقه القانوني عند إعطاء التفسيرات لأي مادة قانونية، الى حرفية النص من جهة، والى استنباط نية المشرّع من ناحية اُخرى. ولهذا يجب أخذ النص بالكامل، وعدم الاجتزاء، واذا طبّقنا ذلك على نص المادة ٩٥، نجد انها جاءت في سياق عام، يهدف الى الغاء النظام الطائفي في لبنان كهدف نهائي، عبر مرحلة انتقالية ، بحيث نصت انه: على مجلس النواب، المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة، لتحقيق الغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء شخصيات فكرية وسياسية واجتماعية.
مهمة الهيئة، دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
وفي المرحلة الانتقالية:
أ- تتمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة
ب- تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويُعتمد الاختصاص والكفاءة، في الوظائف العامة، والقضاء، والمؤسسات العسكرية والأمنية، والمؤسسات العامة والمختلطة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الاولى فيها، وما يعادل الفئة الاولى فيها، وتكون هذه الوظائف، مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، دون تخصيص اية وظيفة لأية طائفة، مع التقيد بمبدأي الكفاءة والاختصاص.
استناداً الى هذا النص، يتضح ان الفقرة (ب) وردت تحت عنوان المرحلة الانتقالية، وهذه المرحلة تبدأ من تاريخ وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، وتنتهي بإلغاء الطائفية السياسية، وفقاً للخطة التي تضعها الهيئة المنصوص عنها في مقدمة هذه المادة. ثم بالاستناد الى النص نجد كلمة (تُلغى) وهي تفيد معنى الالغاء لكل ما ورد بعدها، اي انها ألغت فعلياً قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف التي تلت هذه الكلمة، وأنها اضافت عبارة (وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني) وقد يرى البعض في تفسير هذه العبارة، على انها تُبقي على قاعدة المناصف، وعندها يُصبح نص هذه المادة دون معنى وعبارة عن حشو في الدستور، وهذا لا يتفق مع منطق أهمية وقيمة النصوص الدستورية. ولذلك يجب البحث عن تفسير آخر، ولهذا يجب ربطها بأمرين:
أولاً - بكلمة (باستثناء) التي وردت بعدها مباشرةً ، فهذه الكلمة في اللغة العربية هي اداة حصر وتقييد، اي انها استثنت من حكم الالغاء في المرحلة الانتقالية، وظائف الفئة الاولى وما يُعادلها، وأبقت فيها على قاعدة التمثيل الطائفي والمناصفة .
ثانياً- بما انه تم تعديل هذه المادة من دستور ما قبل الطائف والتي كانت تنص على انه: تتمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة، وتنتهي بعبارة (دون ان يؤول ذلك الى الإضرار بمصلحة الدولة). نجد انه يمكن ربط وفهم عبارة مقتضيات الوفاق الوطني على انها تبرير لنص الالغاء على انه يخدم مصلحة الدولة ، بكونه حاجة وطنية ملحة تقتضيها ظروف الاتفاق والوفاق الوطني، وهي بالتالي لا تنسف مبدأ الغاء التمثيل الطائفي الذي ورد قبلها، وان التقييد جاء صراحة ومحَدّداً في كل ما ورد بعد كلمة (باستثناء). ومن وجهة النظر هذه، تكون المادة٨٠ التي تحفظ حق الناجحين في مجلس الخدمة المدنية، غير مخالفة لنص المادة٩٥ ولا تُسقط قانون الموازنة، الذي هو مخالف للدستور بشكل آخر، كونه تم جعله فوق باقي القوانين ويمكنه تعديلها وإلغائها، رغم انه قانون محدد بفترة زمنية لا تتجاوز السنة وفقاً للمادة ٨٣ من الدستور، اي انه لا يمكن اعتباره دائماً، وينتهي مفعوله مع بداية تطبيق اي قانون موازنة تليه.
ومن دون الدخول في موضوع الهواجس الطائفية لدى جميع المذاهب في لبنان، ربما من المفيد التذكير ببيان حكومة الاستقلال الاولى٧ تشرين الاول ١٩٤٣، الذي اعتبر ان النظام الطائفي يُسيء الى سمعة لبنان ومصلحته، ويُسمم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني، ووعد اللبنانين بالعمل على إلغائه، ولكن ولغاية تاريخه، ما زلنا نشهد ان الانقسام والتعصب والفئوية وخطابات التحريض المذهبي تسيطر على كامل فئات هذا الشعب، ليتقدم الانتماء الطائفي على الانتماء للوطن، وتسقط كل مشاريع الاصلاح وبناء الدولة، لمصلحة فيدرالية الدويلات المذهبية، ويتحول لبنان الى اشلاء دولة ينخرها الفساد والتخلف والفوضى .
*خبير في القانون العام والقانون الدولي الإنساني