تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
إذا ما سمع اللبنانيون أن ملفا أو مشروعا ما يدرس "بعمق" فيصيبهم دوار، ويتقمصهم الهم والكدر، فمن تجاربهم الطويلة بات كل ما هو "معمق وعميق" مصدر قلق دائم، تماما مثل الكثير من دراسات معمقة كلفت الخزينة ملايين الدولارات، لزوم تنفيعات لا أكثر، وفي الغالب الأعم فإن أي قضية تُبحث بعمق يعني تلقائيا أنها موضع خلاف ونزاع، وإذا كانت الارتفاعات الشاهقة تصيب البعض بالرهاب (فوبيا)، فإن الأعماق العميقة تظل مصدر خوف اللبنانيين، الخوف من الغرق وضياع حقوقهم والحد الأدنى الذي يطالبون به ليشعروا أنهم مواطنون يعيشون بين ظهراني دولة ترعى أمورهم وتحمي مكتسباتهم.
ما يتوجس منه اللبنانيون هذه الأيام، يظل متصلا بالمتابعة والإهتمام المنصب على مشروع الموازنة وخفض العجز، لتأمين سلوكه بسلاسة إلى مجلس النواب، ولا سيما بعدما وعد رئيس الحكومة سعد الحريري بإدراجه في أسرع وقت ممكن على جدول أعمال مجلس الوزراء، من أجل مناقشته ومن ثم إقراره قبل ترحيله إلى ساحة النجمة للمصادقة عليه، ولا سيما قبل نهاية فترة السماح التي حددها مجلس النواب للصرف وفق القاعدة الإثني عشرية.
لقد بات الحديث عن الإجراءات الحكومية الموجعة، ومن باب مناقشة التقشف، تشغل البلد، وقد حركت قطاعات عديدة وسط مخاوف من أن تكون ثمة خطوة متهورة وغير مسؤولة تفضي إلى تطورات تؤسس لاندلاع حرائق كبيرة يصعب إخمادها، ليس بالضرورة كتلك التي طاولت "كاتدرائية نوتردام" في العاصمة الفرنسية باريس، وما تمثل من إرث إنساني كاد يضيع ويندثر، ما أصاب العالم بالذهول، فبالمقارنة، فإن حريق كاتدرائية أسهل بكثير، إذ يمكن مواجهته، فهو ظاهر للعيان، أما حرائق اللبنانيين فقائمة ومستوطنة الصدور، وهي تغلي غضبا، حتى أن المشهد الماثل اليوم يؤكد أن ثمة نارا متقدة تحت الرماد، وقابلة للتمظهر حرائق لا تُبقي ولا تذر.
ويبدو أن اللبنانيين مصابون بـ "فوبيا الأعماق"، وإلى الآن ليس ثمة رهاب معروف علميا بـ "رهاب الأعماق"، وربما تكون مثل هذه "الفوبيا" نادرة جدا في العالم، وكلبنانيين نعيشها مع كل استحقاق ولدى متابعتنا ملفات وقضايا كبيرة، ولا نستغرب أن يكون اللبنانيون من أكثر شعوب العالم استهلاكا لمضادات الاكتئاب والمهدئات، فأي "فوبيا" لا بد من مواجهتها بالأدوية ليتمكن الإنسان من التعايش مع حالته ولا تتأثر إنتاجيته في العمل وفي رعاية أسرته.
إذا كانت الحكومة تدرس "بعمق" موضوع الموازنة، فهذا وحده كفيل بأن يحيلنا إلى التوجس والخوف وتنشيط سوق أدوية الرهاب والكآبة ولاكتئاب، والمشكلة أننا محكومون بطبقة سياسية تتوالد من رحم معاناتنا، لا تتوانى عن فرض ضرائب وإجراءات تقشفية، والمشكلة أيضا أن جل المسؤولين سواسية، باستثناء أنه "بروح العاشق بيجي المشتاق"!