تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
في النزاع العربي - الاسرائيلي محطات حاسمة، شأنه شأن أي نزاع تتداخل فيه المسائل السياسية والوطنية بأبعادها التاريخية والقومية والدينية. وكما في أي نزاع طويل ومتشعب، تزداد الهوة اتساعاً بين أطرافه وفي موازين القوى. وفي شقه الفلسطيني- الاسرائيلي، للنزاع خصوصية لجهة انه يشمل كامل الارض، والماضي والحاضر ومستقبل شعب نصفه من اللاجئين. والمفارقة ان المحتل يطالب بمزيد من الحقوق على حساب الضحية. فبعدما ارتضت الضحية أن ترسم حدا، ولو مرحليا، لحل على اساس حدود 1967 وبات محور النزاع في المرحلة الراهنة الحدود لتحصين ما تبقى من وجود، انتقلت اسرائيل من مطلب الاعتراف بالحق بالوجود الى الاعتراف بالهوية اليهودية للدولة المحتلة.
الاعتراف بالوجود يمكن ترجمته بسلسلة من الاجراءات القانونية والسياسية والعسكرية، الا ان الاعتراف بهوية دولة لا من مواطنيها فحسب بل من الغير، حالة غير مسبوقة في اي نزاع. إذ كيف يمكن ان يعترف شعب بهوية دولة لا تخصه، وكيف يمكن الفلسطينيين بالذات ان يعترفوا بهوية دولة قائمة على الغاء هويتهم الوطنية وحقوقهم البديهية. هذا مع العلم ان بعض اليهود لا يعترفون بالدولة اليهودية لاسباب دينية. اما المضمر في هذا الشرط التعجيزي فمزيد من الاستيطان والتهويد للتخلص من فلسطينيي 1948 ولقطع الطريق امام قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة والقطاع. بكلام آخر، ايجاد الظروف الملائمة لا لتحصين دولة اسرائيل، المعترف بها منذ 1948، بل لالغاء هوية الآخر وحقه في دولة، بينما افضل عروض اسرائيل اليوم للفلسطينيين كيان اداري مسوّر بحائط الفصل العنصري.
لعل اكثر ما تخشاه اسرائيل ان الموقف الدولي بات مؤيدا لحل الدولتين، منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن وفي مجلس الامن والاتحاد الاوروبي والرباعية الدولية ومؤتمر باريس الاخير. المجتمع الدولي يصرّ على ان حدود الرابع من حزيران 1967 هي الحدود المعترف بها لحّل الدولتين. وهو الموقف الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية عندما طرحت الحل المرحلي بعد حرب 1973 وأكدته مع اعلانها الدولة المستقلة في مؤتمر الجزائر في 1988. وهذا يعني عمليا التسليم بمعادلة الارض مقابل السلام على اساس قرار مجلس الامن 242، قبل اتفاق اوسلو وبعده.
وجاءت وثيقة "حماس" الاخيرة في اتجاه الخيار الممكن، وبشروط تطيح امكان تحقيقه، ولو نظريا. وهذا يعني تسوية مرحلية للنزاع بحدود 1967 كأمر واقع لا بد منه، تمهيدا لتحرير كامل الارض. وهي طروحات شبيهة في غايتها بتلك التي اطلقتها منظمة التحرير في 1974، ولكن في ظروف هي اليوم اكثر سوءا من اي وقت مضى، فلسطينيا وعربيا وفي ما يخص الموقف الاسرائيلي. وحده الموقف الدولي شهد تبدلا لجهة الاقرار بحل الدولتين بحدود 1967. تستكمل "حماس" من حيث انطلقت منظمة التحرير في السبعينات وفي زمن لم يعد فيه العدو مشتركا ولا القضية جامعة. فلدول المشرق اعداء بالجملة، وللخليج عدو واحد، ولمصر اعداء وفي اليمن وليبيا ويلات تكفي. والقضية الجامعة في الاسر، دعما للاسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام في السجون الاسرائيلية.
في مراحل سابقة، لم تكن الظروف مؤاتية لطروحات تم انضاجها لاحقا بعد اتفاق اوسلو، ولكن من غير ان يتم الاتفاق عليها. "جبهة رفض" السبعينات للحلول النظرية المطروحة في زمن كانت فيه منظمة التحرير في ذروة حركتها ونفوذها في لبنان وخارجه، تختلف عن الصراع الدائر بين السلطة الوطنية ونواتها "فتح" في الضفة و"حماس" في غزة. والنزاع بين الطرفين على الحدود- حدود السلطة والنفوذ- وعلى الهوية وخلفياتها التاريخية. منطلقات "حماس" ومرجعيتها دينية، بينما منطلقات حركة التحرير الفلسطينية وطنية وقومية منذ قيام المنظمة في 1964 واطلاق الكفاح المسلح بعد حرب 1967. وخيار "حماس" يواجه تحديات وظروفا بالغة الصعوبة في زمن التطرف والارهاب المعولم، كما يواجه "جبهة رفض" تمثلها "حركة الجهاد الاسلامي"، وفي غزة تحديدا. واقع الانقسامات الفلسطينية تحت الاحتلال يختلف عن الانقسامات في محطات سابقة، وفي فلسطين تحديدا، بعد اتفاق اوسلو في زمن مفاوضات السلام العربية- الاسرائيلية في التسعينات.
جغرافيا النزاع تبدلت داخل فلسطين وخارجها، ومعها موازين القوى ومعادلة السلطة والنفوذ في الاراضي المحتلة وخارج نطاقها. فبعدما بات للنزاع حدود وباعتراف دولي، تحولت الهوية اداة لصراع لا حدود له في سياسة اسرائيل الالغائية والتوسعية. صراع هويات يحاكي الرائج في المنطقة والعالم مع تلاشي ركائز الهويات الجامعة.
النائب د. فريد الخازن