تابعنا عبر |
|
|
الثائر تقدم لكم تقنية الاستماع الى مقالاتها علّم أي مقطع واستمع إليه
#الثائر
88 سنة فصلت بين الزيارة الأولى، والأخيرة، التي قام بها الرئيس الأميركي الأسبق كالفين كوليدج لكوبا، والزيارة التاريخية التي قادت الرئيس الأميركي الحالي باراك اوباما، يوم امس، الى الجزيرة الشيوعية.
لكن كوبا اليوم لم تعد كما كانت في العام 1928 «حديقةً خلفية» للولايات المتحدة، ولا شك بأن شوارعها وأزقتها ما زالت تحمل الكثير من ذكريات التاريخ المضطرب في العلاقات بين الجار الاكبر، الذي دعم ديكتاتورية فولخانسيو باتيستا، ومن سبقه، وناصب العداء للثورة الشعبية التي قادها فيدل كاسترو ورفاقه، فراح يعمل على إسقاطها، متآمراً على قائدها، ومن ثم حاول غزوها في خليج الخنازير، قبل أن يقوده فشله الى ارتكاب جريمة بحق شعبها، تمثل في حصار اقتصادي استمر أكثر من نصف قرن... ولا يزال.
ومن المؤكد أن الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، الذي حطت طائرته الرئاسية «اير فورس 1» في مطار خوسيه مارتي في هافانا امس، سيكون أكثر حذراً في التعامل مع الرئيس راوول كاسترو، مقارنة بتعامل سلفه الثلاثين مع الرئيس خيراردو ماتشادو، حين حلّ على الجزيرة الكاريبية في العام 1928، يوم كان الرؤساء الأميركيون ينظرون الى كوبا باعتبارها التفاحة اللاتينية التي سقطت من الشجرة الإسبانية في حديقة العم السام.
ولا شك ايضاً في ان الترحيب الكبير الذي سيلقاه أوباما من الكوبيين خلال اليومين اللذين سيمضيهما في جزيرتهم، لن يرقى الى الترحيب الحار الذي حظي به كالفين كوليدج، قبل 88 عاماً، وأجواء الصخب التي مكّنت أعضاء الوفد الرئاسي الاميركي من الالتفاف على حظر الكحول في الولايات المتحدة (1919-1933)، ولو لبضعة أيام، فأفرط قسم كبير منهم في تناول مشروب دايكيري، باستثناء الرئيس، الذي التزم بقانون الحظر.
كما أنه لن يتسنى لأوباما أن يشعر بالمتعة التي شعر بها كوليدج يوم تجول في سيارته المكشوفة في شوارع هافانا، فيما كانت الجماهير تلقي باتجاهه الورود وتوزع عليه القبلات، لدى مرور موكبه، ليبادرها برفع القبعة بهدوء، ذلك ان الرئيس الحالي سيكتفي بالتنقل في الجزيرة الكاريبية بسيارته الليموزين المصفحة.
واذا كان الرئيس الأميركي قد أمضى ليلته الأولى في هافانا سائحاً عند شاطئها وربما في شوارعها الرئيسة، كما هو مقرر في جدول أعماله، فإنه لن يجد في كوبا ذلك المنتجع الذي كان في الماضي قبلة أثرياء الولايات المتحدة، ومسؤوليها، يوم كانت كوبا مجرد نادي قمار لأولئك الراغبين في الاستراحة من صخب لاس فيغاس.
ولكن، برغم كل هذه الاختلافات، فإن ثمة تشابهاً مثيراً للانتباه بين الزيارتين الرئاسيتين، المفصولتين بالسنوات الثماني والثمانين، فبزيارته هافانا، يود أوباما إخراج البلدين المتخاصمين من الطريق المسدود، وهي المهمة ذاتها التي سعى اليها كوليدج، الذي سعى يومها الى احتواء الغضب الذي أثارته السياسات الأميركية اتجاه أميركا اللاتينية.
ويبدو ان اوباما ينوي اعتماد أسلوب كوليدج في هافانا، وهو ما عكسته بعض تصريحاته السابقة للرحلة الكوبية، اذ قال انه سيستفيد من الزيارة «ليشرب كوباً من الشاي الكوبي»، في رسالة وجهها الى مواطنة كوبية في السادسة والسبعين من العمر لمناسبة إعادة خدمة البريد المباشر بين البلدين، فيما قد يستفيد أعضاء الوفد المرافق هذه المرة، تماماً كزملائهم السابقين، من فرصة وجودهم في الجزيرة الكاريبية لشراء مشروب الروم الكوبي، ولكن هذه المرة بقيود، ذلك ان القانون الاميركي يسمح للمسافرين الى كوبا بشراء كمية من الكحول أو التبغ بما لا تتجاوز قيمته المئة دولار فحسب، في حين ان مرافقي كوليدج كانوا يواجهون مشكلة ان حقائبهم لا يمكن ان تسع كمية «الباركاردي» التي اشتروها.
وبرغم التحسن الملحوظ في العلاقات الثنائية، منذ القرار التاريخي الذي اتخذه الرئيس الأميركي في كانون الاول العام 2014، بإنهاء القطيعة التاريخية مع الجار الشيوعي، فإن أوباما لن يكون محظوظاً كأسلافه، الذين تعاملوا مع كوبا على أنها الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، قبل ان يستقل الاخوان فيدل وراول كاسترو وارنستو تشي غيفارا وكاميلو سيينفيغوس، ومعهم 78 ثائراً آخر، سفينة «غرانما»، مبحرين الى شواطئ سييرا مايسترا، ليعلنوا الثورة على الديكتاتور باتيستا، آخر رئيس كوبي موال للأميركيين «اليانكي».
ولكن زيارة اوباما لكوبا ستفتح، من دون أدنى شك، فصلاً جديداً في العلاقات الثنائية، لكن صفحاته ستبقى مشوبة بالحذر الدائم إزاء الجار اللدود، ونزعته التآمرية، التي يتندر عليها الكوبيون بطرفة قديمة تجزم باستحالة وقوع انقلاب عسكري في الولايات المتحدة «لعدم وجود سفارة أميركية في واشنطن»!
في ظل هذا المشهد المشوّش بالحذر، حطت الطائرة الرئاسية الاميركية في مطار خوسيه مارتي بعيد الساعة الرابعة والربع من بعد ظهر امس (بالتوقيت المحلي)، وسط طقس غائم، لينزل منها اوباما، الذي كتب تغريدة، فور وصوله الى الجزيرة الكاريبية، جاء فيها: «كيف الحال يا كوبا... وصلت لتوّي وأنا أنتظر بفارغ الصبر أن ألتقي الكوبيين وأستمع اليهم».
وتحت زخات المطر، نزل اوباما من الطائرة الرئاسية، والابتسامة تعلو محياه، برفقة زوجته ميشيل، وابنتيه ماليا (17 عاما) وساشا (14 عاما)، فيما كان مذيع في التلفزيون الكوبي، الذي كان ينقل الحدث مباشرة، يعلق على المشهد بالقول: «انها مناسبة تاريخية».
واستقبل اوباما عند مدرج الطائرة من قبل العديد من المسؤولين، بينهم وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز، قبل أن ينتقل الى مقر السفارة الاميركية في هافانا، ليقوم بعد ذلك بجولة في الشوارع التاريخية للعاصمة الكوبية، برفقة أفراد عائلته.
أما الشق السياسي في جدول اعمال الزيارة الكوبية، فيبدأ اليوم، من خلال لقاء يعقده اوباما مع الرئيس راوول كاسترو، وآخر مع رجال أعمال كوبيين. أما يوم غد، فسيمثل لحظة الذروة في الزيارة الرئاسية، حيث سيلقي اوباما خطاباً موجهاً الى الكوبيين في مسرح هافانا الكبير، وسينقله التلفزيون الرسمي، ثم يعقد لقاءً مع معارضين كوبيين، ويحضر مباراة في «البايسبول» بين الفريق الوطني الكوبي وفريق «تامبا باي رايز»، قبل ان يغادر وعائلته الجزيرة الشيوعية الى الارجنتين، ليعود الى واشنطن يوم الجمعة المقبل.
وقبل ساعات من وصول اوباما الى هافانا، شهدت كوبا حدثين، قد ينظر اليهما الرئيس الاميركي باعتبارهما رسالتين سياسيتين غير مباشرتين.
الحدث الأول، تمثل في اعتقال الشرطة الكوبية عشرات المحتجين المناهضين للحكم الشيوعي.
ونظمت الاحتجاج مجموعة «نساء في الثياب البيضاء» التي أسستها زوجات سجناء سياسيين سابقين.
ووضعت الشرطة الكوبية المعتقلين في عربات امام كنيسة يحاولون عادة تنظيم تظاهرات أمامها كل يوم أحد تقريبا.
ويقول البيت الابيض ان اوباما سيناقش مسألة حقوق الانسان في كوبا، بينما تصر هافانا على ان السياسات الداخلية «غير قابلة للنقاش».
وكانت منظمات كوبية منشقة قد عبرت، امس الاول، عن أملها أن تساهم زيارة اوباما في «نهاية القمع» تجاه المعارضين، في اشارة، على ما يبدو، الى ما تعهد به الرئيس الاميركي، الاحد الماضي، في رسالة الى زوجات معتقلين سياسيين كوبيين سابقين، بأن يتمكنّ من الحديث مباشرة مع الرئيس الكوبي راوول كاسترو عن «العوائق» القائمة في كوبا أمام الممارسة الكاملة للحريات العامة.
وتنفي السلطات الكوبية وجود مساجين سياسيين في البلاد وتقول ان توقيف منشقين ناجم عن ارتكابهم جرائم جزائية.
أما الحدث الثاني، فتمثل في الزيارة التي قام بها الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الى هافانا، امس الأول، التقى خلالها راوول كاسترو، والرئيس السابق فيديل كاسترو، فيما حظي بتكريم رمزي، من خلال تقليده وسام خوسيه مارتي، وهو الوسام الارفع في كوبا، وبدعم سياسي متجدد، تُرجم ببيان أصدره مجلس الدولة الكوبي، بحضور كاسترو، وجاء فيه ان مادورو «يواجه بشجاعة وذكاء» التدخلات في الشؤون الداخلية لبلده «مثل المرسوم (وقعه اوباما) الذي يعتبر فنزويلا عن غير حق تهديدا».
وتتسم العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة بالتوتر، وتتهم كاراكاس باستمرار واشنطن بمحاولة زعزعة الحكومة الاشتراكية التي تعيش أزمة اقتصادية خانقة وبرلمانا تسيطر عليه المعارضة اليمينية.